حرب الشوارع في لبنان
للوهلة الأولى تتأتّى ذكرى الحرب الأهليّة اللّبنانيّة الأليمة على مدى 15 عاماً، بمشهديّة صراع الأخوة من أجل مصالح الآخرين، حيث عاثت الفوضى في شوارع الوطن كطفيليّات امتصّت موارده وأعمار الشباب، وضخّت السّموم في شعارات التفرقة التي قسمت الشعب على ذاته، عقلاً واحداً، قلباً واحداً، إنّما يدَين إثنتين مسنّنتين، نهشت الواحدة الأخرى لتقطع وريدها. وازدادت خلالها قوّة اليدين على حساب تحكيم العقل وعاطفة القلب، منتجةً الدّمار والشجون والدّماء التي لم يسلم منها لا دار ولا منطقة ولا فئة، ولم ترحم الحجر والبشر ...
هنا، جلّ ما نشدّد عليه هو إبقاء الذكرى السوداء في الأذهان تفادياً لتكرارها، لأنّ ما نريد تسليط الضوء عليه في هذا المقال هو حرب شوارع من زاوية مختلفة.
حرب يخوضها اللّبنانيّ على الأقلّ مرّتين خلال اليوم الواحد، وميدانها الشوارع المزدحمة في بيروت ومحيطها والتي تعجّ بمئات آلاف السيّارات التي تعجز طرقات العاصمة عن احتمالها في أوقات الذروة الخانقة. وكأنّ من يصل صباحاً إلى عمله أو يعود مساء منه، كمن قضى ساعات على جبهات دامية عاد منها سليماً جسديّاً لكن مصاباً بشظايا معنويّة وأضرار نفسيّة، من حرق أعصاب وسوء مزاجيّة وإرهاق جسديّ وماديّ.
إنّ أسباب هذه الحرب متعدّدة ومتشعّبة، أبرزها قدم بعض الخطط البنيويّة المرسومة وسوء تنفيذ بعض الإنشاءات وقلّة الطرقات الأساسيّة والفرعيّة مقارنة بأعداد السيّارات الهائلة جدّاً.
ومن جهة أخرى تبرز مشكلة التوقيت، حيث يصبّ في آن واحد خلال ساعات الصباح الأولى ذهاباً وساعات ما بعد الظهر إيّاباً، من بيروت وإليها، حوالي نصف الفئة العاملة اللّبنانيّة، كغزارة شلّال متدفّق لبحيرة فائضة بالمياه.
هذا ومن دون إغفال مشكلة الأشغال، من حفر البنى التحتيّة والصحيّة وترميم الطرقات والأرصفة، التي تنجز في الأشهر الأخيرة من كلّ سنة، وذلك بهدف إنفاق ما تبقى من مبالغ موجودة في موازنات البلديّات والدّولة، أملاً باعتمادات جديدة ومبالغ أخرى في موازنات العام الجديد. إلّا أنّ ما يصبّ الزيت على النار هنا، هو تزامن هذه الأشغال مع بدء العام الدراسيّ وما يرافقه من جحافل الطلاب المنضمّين إلى حفلة الإزدحام اليوميّ المفعم بالتلوّث البيئيّ والسمعيّ.
وفي هذا الإطار، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإشكاليّة الأعظم تبقى في طرح مدى قدرة المواطن على معاتبة مسؤوليه إذا ما كان هو نفسه بسلوكه الدائم يخالف أنظمة السير، لا بل وقوانين الطبيعة والأخلاق والذوق والتربية، تارة بحجّة تفادي التأخير وطوراً بحجّة شعوره بالفوقيّة، وغيرها من التبريرات التي وإن دلّت على شيء، فهو أنّ اللّبنانيّ غارق بتناقض اليأس والقبول، اليأس من هذا الوضع السلبيّ ومن إمكانيّة معالجته، كما والقبول به كنتيجة لإذعانه بالفشل.
هذا اللّبناني عانى من حرب شوارع أولى تعلّم منها أنّ القوّة في التواصل والحكمة في التسامح، لكنّه ما زال يعيش حرباً ثانية قاهرة يدفع ثمنها يوميّاً دون أن يتدارك لحلّها،
لأنّ المعالجة، إن طلبها وارتضاها، تبدأ بإعلان هدنة شاملة للحدّ من الأضرار، محورها ميثاق شرف بين السائقين إحتراماً للذّات وللغير والتزاماً بأنظمة السير. تليها سلسلة إجراءات من إقرار خطط جديدة، وتشريعات تمويليّة ومراسيم تنفيذية تتضمّن إنشاء وتوسيع طرقات فضلاً عن جسور وأنفاق جديدة، والطلب من البلديات ووزارة الأشغال إنجاز أشغالها قبل بدء السّنة الدراسيّة، وتحفيز مشاركة المركبات لاسيّما بين أبناء المنطقة الواحدة، وإصدار تعميمات من شأنها تحديد دوام سير خاص لبعض الآليّات الثقيلة كالشاحنات والباصات تكون بغير أوقات الذروة، وبطبيعة الحال يبقى الحلّ الأمثل في إقرار اللّامركزيّة الإداريّة التي تحمل معها فائدتين، تخفيف الضغط عن شوارع العاصمة، وإنعاش الضواحي إداريّاً وخدماتيّاً واقتصاديّاً.
الموظّف المدنيّ في المديريّة العامّة لأمن الدّولة
باتريك إيليّا أبي خليل