سقوط الجدار وخلفيّاته
حاجز إسمنتيّ مشدّد الحراسة بطول 155 كيلومتراً وارتفاع 12 متراً لم يكن كباقي الجدران، لأنّه قسّم الكرة الأرضيّة جمعاء عام 1961 إلى نصفين بحدودها وشعوبها وولائها. الأوّل شيوعي يلتفّ حول عباءة الإتّحاد السوفياتيّ وآخر رأسماليّ ينضوي تحت جناحيّ الولايات المتّحدة الأميركيّة.
الرمزيّة العظيمة لهذا الجدار الصغير من جهة، وظروفه وتوقيته من جهة أخرى، أدخلته التاريخ من بابه العريض. فهو حاجز للإنعزال والتقوقع والخوف يتمترس في كلا طرفيه حكومات مندفعة وشعوب مسجونة وعقائد متناقضة.
في الغرب محور إمبرياليّ يكرّس الديمقراطيّة بما تحتويه من حريّات فرديّة وجماعيّة، ونظام رأسماليّ لطالما تميّز بسوء توزيع الثروات مصطدماً بالحقوق العماليّة والمساواة الطبقيّة، منتجاً قلّة من الأرستقراطيّين الأغنياء المتحكّمين بالسّواد الأعظم من الأصول والمحتكرين للموارد والإستثمارات وغيرها. أمّا شرقاً فتكوّن المحور الشيوعيّ، الذي لم يأتِ من عدم بل من الظلم اللّاحق بالعمّال الثّائرين، الذين أيقظوا حكومات اعتمدت العلمانيّة والمساواة وحصرت فيها التخطيط، مرتكزة على الماركسيّة كمبدأ وحيد أوحد في تكوين أنظمتها الشموليّة بقبضة من حديد، لكن أتى كلّ ذلك على حساب الديمقراطيّة والحريّة والعدالة إذ حدّت من اندفاع المثقّف وقدرته على التطوّر والطموح.
لم يكن سقوط الجدار إلّا إعلاناً واضحاً على هزيمة أحد المعسكرين في الحرب الباردة. فالشيوعيّون، وبالرّغم من قدراتهم العسكريّة الهائلة، عجزوا عن الصّمود إقتصاديّاً بوجه شراهة الرأسماليّة. حتّى بات يحكى عن فاعليّة شنّ حروب إقتصادية غير مزهقة للأرواح عوضاً عن حروب عسكريّة ونتائجها المكلفة. ولكنّ الشيوعيّة أبت الإنهزام الكامل دون إصابة الخصم ببعض الشظايا، إذ زالت معها تدريجيّاً الرأسماليّة التقليديّة وحلّت مكانها تلك الحديثة المرصّعة ببعض أفكار الماركسيّة بعد أن حازت القوى العاملة على حقوقها وأُقرّت تشريعات وأحكام ماليّة تحصّن أوضاع العاملين وعائلاتهم وتفرض ضرائب على رؤوس الأموال والكماليّات .
ورغم انهيار الإتّحاد السوفياتي وأنظمة الدّول الواقعة في فلكه، إلّا أنّ المعسكر المنتصر سياسيّاّ واقتصاديّاً لم يتجرّأ على تخطّي شبر واحد وراء خطّ الجدار أو التحرّك عسكريّاً، لما يختزنه الفريق المنهزم من قوّة ردع نوويّة أبقته رغم علّته في طليعة المؤثّرين على السّاحة الدّوليّة. ما لم تلقاه دول عدم الإنحياز، المجموعة التي رفضت الإنضمام إلى أيّ من المعسكرين الكبيرين، والتي حاولت أن تنشئ طرفاً ثالثاً فاعلاً في المعادلة السياسيّة مستعينة بأهمّيتها العدديّة والإقتصاديّة والعسكريّة والجغرافيّة، لكنّها لم تبنِ سوراً فاصلاً ولم تدم طويلاً وخلت من أيّ تأثير لكونها تفتقر إلى قوّة التفاوض والتهديد النوويّة التي يمتلكها العملاقان الشيوعيّ والرأسماليّ.
يبقى أن نشير أخيراً إلى أنّ جدار الخوف والتفرقة الذي بُني في قلب ألمانيا فاصلاً بين وريديها، وإن أتى في بادئ الأمر كترجمة لتوزيع الغنائم وموارد النازيّة المهزومة في الحرب العالميّة الثانية، إلّا أنّه شطرها إلى شرقيّة تقبع تحت سيطرة جيش الإتحاد السوفياتيّ وغربيّة يتواجد فيها جيوش الحلفاء، موقفاً زحف الفريقين عند حدوده.
وما إن تزعزع النظام الشيوعيّ حتّى اصطحب معه التمرّد من شرق ألمانيا حين توجّهت جحافل المواطنين أواخر عام 1989 وهدمت الجدار. عندها تأرّخ التقاء العالم مجدّداً، بعد أكثر من 28 عاماً من الطّلاق وخوض حروب الوكالة طيلة الفترة المسمّاة بالحرب الباردة.
المديريّة العامّة لأمن الدّولة
باتريك إيليّا ابي خليل