كأس الثنائيّة المرّة
في ظلّ عولمة مطلقة زرعت علمانيّة مستحدثة في شتّى بلدان العالم، زالت الحواجز التاريخيّة بين الحضارات التي تطايرت بذورها الملقّحة لبعضها البعض والمندمجة فيما بينها، فتمخّضت قرية صغيرة من رحم الكون الواسع.
لسنا بصدد البحث في حسنات أو سيّئات ثنائيّة العلمانيّة والعولمة ولا بتأثيرهما على الدّول، بل بانعكاسهما البسيط على شعب مشرقيّ لبنانيّ، كان من السبّاقين منذ الأوائل والأسلاف إلى نشر الحرف والحضارة والتقاليد العربيّة المحافظة. إلّا أنّه ولظلم القدر، بات مستورداً لتقاليد الغرب المهيمنة وذائباً في أساليب عيشهم التي لا تأتلف بمعظمها مع تقاليدنا وعيشنا، غارزة الرمح في قلب حضورنا ووجودنا المشرقيّ.
مؤخّراً نُشرت دراسات عدّة تشير في لبّ جوهرها إلى ابتعادنا عن روحيّة إيماننا الموروثة وجذور أرضنا المتأصّلة، وزحفنا نحو التعلّق بمغريات المادة الفانية والمصطنعة، عبر علمانية لا محدودة تلهينا بجمال القشرة الخارجية للحياة وعولمة تنخر التاريخ وتُنسي الأعراف، بحجّة تكسير الحواجز والإنفتاح.
أهمّها ما يتعلّق بالديمغرافيا، زوالنا الممنهج، الضارب لكلّ ما بناه أجدادنا وعاش لأجله أنبياؤنا وقدّيسونا، إذ إنّ أعدادنا تزيد بنسبة جدّ هزيلة ومتواضعة، ضمن دائرة الحياة المتجدّدة، مقارنة باللّاجئين والأجانب المقيمين في بلدنا، كما والشعوب في البلدان المجاورة لنا، حيث بدا واضحاً الخلل العدديّ في الولادات الذي يعيشه اللّبنانيون والذي قد يشكّل في المستقبل القريب تشويهاً في الهرم السكّاني وهوّة مخيفة على مستوى الأجيال اللّاحقة، ويستدعي دقّ ناقوس الخطر الوجوديّ في بلد الرسالة. وهذا الأمر مردّه الأوّل والأخير إلى أنّ شبابنا اليوم، بإدّعائهم التحرّر والإنفتاح على العالم ومحاولتهم تقليد الغربيّين تحت جناحيّ الثنائيّة الخطيرة، نسوا أو تناسوا قيمة الثقافة الشرقيّة والعائلة وقدسيّتها، وانسحبوا إلى سلوك طريق أنانيّ عنوانه البسط، ظاهره "البرستيج"، طريقه الإنفاق، غايته الشهرة. ولتحقيق ذلك، يعمد البعض إلى التنكّر لأصله وإرثه عبر بيع أراضي الأجداد وتاريخها لتحويلها إلى سيولة "التفشيخ والتبذير"، أو حتّى عبر الإستدانة العمياء في ظلّ وضع إقتصاديّ متزعزع.
كلّ هذا أدّى إلى إحياء حالة غير طبيعيّة تفشّت في لبنان، ألا وهي ظاهرة العنوسة، التي تخطّت الخطوط الحمراء عند كلا الجنسين، متلطّية خلف ذرائع غلاء المساكن والتعليم والمعيشة الصعبة والتضخّم والدّخل المحدود وغير المستقرّ. ولكن حقيقتها الوحيدة والأكيدة، هي الأفكار السطحيّة المستوردة لشباب الحاضر، البعيدة كلّ البعد عن النّعمة والبركة وتعاليم السماء، وعن الحدود الدّنيا من تحمّل المسؤوليّة والتمثّل بالأهل وتضحياتهم، لتكون أقرب إلى الأنانيّة والمظاهر التي تتجلّى بالسهر الدائم وتملّك الكماليّات وحبّ الشهرة الوهميّة والأنا الذاتيّة.
لذلك، تسعى المراجع الدينيّة والدنيويّة جاهدة عبر رجالها ومؤسّساتها وجمعيّاتها إلى لملمة أبنائها، وتصويب طريقهم وتعميق إيمانهم لتمتين الثقافة الأصيلة وضمان البيئة المحافظة، وتكريس العائلة و"تسمير" وجودها المقدّس في الشرق،
بهدف خروج اللّبنانيّين من الزوبعة الشكليّة السائحة في قشرة الحياة وغوصهم في عمق قلبها، فيتجدّد إيمانهم بأرض أجدادهم وتمسّكهم بتقاليد غيّرت معادلات أبقتنا صامدين عبر الأزمنة، قبل حلول كأس العلمانية غير المنضبطة في عولمة مجهولة المصير.
المديريّة العامّة لأمن الدّولة
باتريك ايليا ابي خليل