ما بين أمسنا وحاضرهم ناقوس خطر
تسارعت السنون وهرولت الأيام ليتغيّر كلّ شيء وينحدر تدريجيّاً نحو الأسوأ، حتّى صار السواد الأعظم من شباب اليوم يحنّ إلى استذكار روعة الطفولة وجرأة المراهقة لتلك الأيّام القديمة الزائلة. وها نحن ننطلق من مقارنة فاضحة ومؤلمة، لبساطة الأمس المنسيّة وواقع اليوم الملموس.
نعم البساطة، حين كان أولاد الحيّ يتجمهرون في باحات وبؤر حول طابة واحدة وأربعة أحجار تمثّل عارضات المرمى، يتواعدون يوميّاً عند مفرق أو دكّان ويركضون في الأزقّة بين جيرانهم وأقربائهم، يسرحون في الأحراج ويلهون في الأودية بين الأشجار والعصافير، يبنون العرازيل، ينصبون الخيام، يتشاركون الأوقات، يقفزون فوق جداول المياه، يتسامرون تحت ضوء القمر وحول عين المياه، ينتظمون ضمن مجموعات متنافسة ويلعبون شتّى أنواع الألعاب البدنيّة غير المكلفة، من بيت بيوت وطاق طاقية وكرشك عالي يا خالي وسبعة حجارة وغميضة وخريطة وخطّة، وغيرها الكثير الكثير من الألعاب والنشاطات التي تنمّي الإنسان جسديّاً وفكريّاً، إنّما الأهمّ الأهمّ إجتماعيّاً.
أمّا وإن حال فصل العواصف والرعود من لقاءاتهم، إختلوا وذاتهم يرسمون، يبتكرون، يؤلّفون أشعاراً وكتباً ذاتيّة، ينمّون مواهبهم الفطريّة، والأهمّ يصلّون مخاطبين الخالق ببساطتهم وبراءتهم.
أمّا اليوم، وما أبشع اليوم، ...
فقد اخترق التطوّر بساطتنا، وذبحها من الوريد إلى الوريد، ناخراً جوهر نعمتها وبركتها، مزعزعاً ركائزها، مسمّماً وجدانها. فتبدّلت الأمور وخلت الأحراج من زوّارها، انطفأت صيحات الساحات، نامت الأزقّة، شحّت العين وركدت السواقي، تاقت العصافير لجمهورها، وانقرضت الألعاب الجامعة. فما عاد الجبين يسيل نخوة وجهداً وعرقاً، وسكن الجسم في خلوة عميقة ضارة، وتقوقع الإنسان أكثر فأكثر بأنانيّته جاهلاً معنى الشراكة وبانعزاله في وسط مجتمعه، ليصبح جلّ مجهوده يتمحور حول تركيز قزحيّة عينيه في شاشة صغيرة مستوردة، أقنعته بخبثها المسعّر والميسِّر أنّها تختصر عالماً بأكمله، لا بل أنّها عالمه الخاص.
طبعاً لا يمكن نكران ذكاء أجيال اليوم الصاعدة المتماشي مع التطوّر، لكنّ الأخير أخذ منحى خطيراً وأرخى بظلاله على أدقّ تفاصيل أمور الإنسان الحياتيّة ولوّث سلامته البدنيّة والتربويّة والإجتماعيّة والعائليّة ... ممّا يستدعي، وبحزم قطعيّ، دق ناقوس الخطر.
المديريّة العامّة لأمن الدولة
باتريك إيليا أبي خليل